ربيع كفاية الثانى
بقلم عبد الحليم قنديل
جعلت كفاية من 13نيسان (أبريل) 2010 نقطة تحول هائل في تاريخ جماعات التغيير بمصر، وقادت هجوما معاكسا حمل شعار (الشارع لنا)، وليس لقوات البطش والترويع الأمني، وعادت 'كفاية' من جديد محورا ناظما لنداءات التغيير استنادا لقوة الشارع، وأثبتت ـ بالملموس ـ أن المقاومة المدنية والعصيان السلمي وحده هو طريق التغيير الذي لاطريق سواه في مصر المحزونة.
كان المشهد مفاجئا ويخلع القلب، في قلب القاهرة المزدحمة بملايين الناس ومئات الآلاف من السيارات، وعند تقاطع شارع رمسيس مع شارع 26 تموز (يوليو)، وفي نفس المكان الذي انطلقت منه حركة كفاية في صعودها الأول بمظاهرة 12 / 12 / 2004، وهو نفسه المكان الذي أطلقت منه دورة حياتها الثانية بمظاهرة 12 / 12 / 2009، كانت الإشارة الأخيرة رمزية لميلاد كفاية الثاني، وهو الذي بانت تباشيره عفية مقتحمة في مظاهرة 13نيسان (أبريل)، والتي
اقترب عدد المشاركين في ذروتها من الألف قيادي وناشط سياسي، وبدت اللوحة على امتداد البصر مفعمة بالحيوية المتدفقة، رجال وشباب ونساء، وشخصيات عامة وأساتذة جامعات ونواب وأدباء ومفكرون وحالمون برئاسة مصر، وأثبتت كفاية مقدرتها المتفوقة على الحشد المتسع لكل ألوان الطيف السياسي، وبدت كحجر زاوية في التجمع الرمزي الموحي بائتلاف واسع للتغيير، بدت كفاية كأنها تفتتح ربيعها الثاني في 2010 و 2011، وبعد أن شغل المرضى النفسيون ومعاتيه أمن الدولة أنفسهم بحكايات خرافية، ومن نوع 'أمنا الغولة' و'موت كفاية' الذي لاقيامة بعده .
نعم، 13نيسان(أبريل) كان عيد قيامة كفاية، فقد استدعت كفاية قواتها للعودة إلى الشارع في الموعد المناسب بالضبط، وبعد أن طرأت على السطح المصري تغيرات متلاحقة، وبعد أن جرت إعادة ترتيب لصور كثيرها مصنوع، وبعضها طبيعي، فقد زحفت ظاهرة البرادعي على مشهد التغيير في مصر، وتدافعت ظواهر الهرولة والزحام على باب البرادعي، وكأنه المنقذ والمخلص والمهدي المنتظر، وبدا استعداد البرادعي النسبي للخروج من منزله الأنيق على طريق القاهرة ـ الإسكندرية الصحراوي، والانتقال إلى جامع سيدنا الحسين في القاهرة الفاطمية، وإلى المنصورة عاصمة السياسة في قلب الدلتا المصرية، بدت المشاهد المصورة كأنها تزيح غيرها من الصور، وتعكس التفافا وحيدا موحدا من حول البرادعي، كان ذلك صحيحا من زاوية، وخاطئا من زوايا أخرى، صحيحا من زاوية وجود تعاطف شعبي حقيقي مع ظاهرة البرادعي، ليس مع شخصه بالطبع، ولكن مع الإيحاءات في شخصه، ومع حلم كامن تحت جلد الهدوء المصري المستكين الظاهر، ومع أشواق تغيير مكبوتة مخزونة تقفز إلى السطح في لحظات التساؤل الكبرى، وخاصة أن البرادعي بسحنته الأبوية الباسمة المتواضعة بدا طالبا لعطف الناس على قضية التغيير، وفك مصر من قيودها، وإلى هنا، بدا صعود ظاهرة البرادعي مفهوما، لكن ما بدا مثيرا لشكوك وشروخ في الظاهرة، كان يبدو في شخوص بعض الذين أحاطوا بالبرادعي، وجعلوا من أنفسهم كهنة المعبد، وأحاطوه بمحاذير خانقة قيدت حركته، وأخذت من وهجه، وجعلته في موقف 'المتخاذل' عن نصرة شباب المتظاهرين في 6 نيسان (أبريل) ذكرى انتفاضة المحلة الكبرى قبل سنتين، والذين تعرضوا لحملة اعتقالات وتنكيل همجي في ميدان التحرير، فلم يصدر عن الرجل بيان ينتصر أو يتعاطف، ولم يبادر بالانتقال من بيته عند الأطراف إلى قلب القاهرة، بل وسارع بعض المتحدثين باسمه إلى لوم وتقريع المتظاهرين، وكان ذلك خطأ فادحا، فيما بادرت كفاية إلى التقاط طرف الخيط، وأكدت صلابتها واستقامتها وإخلاصها وذكائها، وتحركت في ميادين الخطر، وبادرت إلى دعوة للرد السياسي بلغة الشارع، ودعت الدكتور البرادعي ـ وغيره ـ إلى مظاهرة 'الشارع لنا' ردا على حملة التخويف والتفزيع والإرهاب الأمني، ولم يحضر البرادعي ولا حضرت صوره، وتخلق المشهد العفي بدونه، ودارت اشتباكات بين قوات الأمن وشباب المتظاهرين، وبدت كفة المتظاهرين أرجح من كفة قوات الأمن، وتوقفت حركة الشارع تماما، وتكونت بؤر تظاهر أخرى على الرصيف المقابل، وتدافع سكان العمارات ـ قبل كاميرات الفضائيات ـ إلى تصوير اللحظة التي بدت كأنها قطعة من يوم البعث، فلم يكن هدف 'كفاية' من المظاهرة محصورا بواجب الوقت، ولا مجرد الرد على انتهاكات ووحشية قوات الأمن، بل فهمت 'كفاية' ما يجري على النحو التالي، وهو أن النظام ـ بوحشية قواته الأمنية ـ يريد إعادة فرض الحظر على حقوق التظاهر والاعتصام والإضراب السلمي، وهي الحقوق التي اكتسبتها وانتزعتها طلائع التغيير على مدى خمس سنوات مضت، وبالرغم من الحظر الرسمي والقانوني، وقدم الآلاف تضحيات جليلة لكسب حقوق الشارع، بذلوا من أنفسهم وأبدانهم وحرياتهم وأرزاقهم، وكسروا حواجز الخوف، وشقوا طريقا لكسب الحرية غير طريق البيانات والتسولات، شقوا طريق المقاومة المدنية والعصيان السلمي، وهي العقيدة التي تنتسب إليها كفاية وأخواتها، ويجفل البعض في معسكر البرادعي منها، وعلى ظن أن 'الحصانة المجازية' المفترضة لشخص البرادعي قد تغني عن تحمل الضرائب ودفع ثمن الحرية.
وللإنصاف، يبدو موقف البرادعي كشخص أكثر راديكالية من مواقف الكثير من أنصاره، فالرجل يصف نظام مبارك بأنه غير شرعي، وقد كانت تلك نقطة لقاء موضوعي مع خط حركة كفاية، والتي دعت مبكرا إلى التصرف على أساس قاعدة عدم شرعية النظام، ومقاطعة ألعابه الانتخابية كلها، والتي انتقلت من 'التزوير المنهجي' إلى 'المسخرة المنهجية'، وقد دعت كفاية كل الأطراف إلى مبدأ المقاطعة، واستجاب البرادعي وحده، ودعا هو الآخر إلى المقاطعة في تطور راديكالي لافت، لكن الجمعية التي تلتحف باسمه (الجمعية الوطنية للتغيير) لم تؤيد المقاطعة إلى الآن، ولا تزال أسيرة الطبعة الإصلاحية العاجزة إياها، والتي تدبج فيها البيانات، وتتكرر المطالبات كأسطوانات مشروخة، ودون أن تقرن الأقوال بالأفعال، فلا يزال بعضهم يتعامل مع ظاهرة البرادعي كأنها بقرة حلوب، ويدعون القرب منها بدوافع ومصالح ظهور شخصي صغيرة، أو بدواعي خوض انتخابات مزورة تحت راية البرادعي، وينتهون ـ بالعمد أو بدونه ـ إلى التباسات تناقض الأقوال والأفعال في السيرة والسلوك، ولا يجمعهم غير جمع التوقيعات على بيان البرادعي ومطالبه السبعة، والتي تدور كلها حول شروط دستورية وقانونية لنزاهة الانتخابات، وقد أدرك البرادعي ـ ببصيرة نافذة ـ أن الشروط لن تتحــــقق، وطالب بالمقاطعة، بينما لايزال بعض أنصاره في غيهم يعمهون، يخادعون الناس بأحاديث عن انتخابات حرة ممكنة في ظل النظام الديكتاتوري، ويقيمون الفواصل التي تحجز الرجل عن التحاور والتفاعل مع حركات التغيير السياسي والاجتماعي على طريقة كفاية وأخواتها.
نعم، قد تكون رؤي كفاية وخططها للتغيير أبعد مدى وأعلى سقفا من برنامج البرادعي، وثمة خلافات جوهرية في القضية الوطنية والاجتماعية بالذات، لكن كفاية لاتصد نفسها ـ بعقد التعصب للرأي ـ عن التفاعل مع ظاهرة البرادعي، ودفعه لاكتساب حس الشارع والحركة الطليقة في ميادينه، والانتقال إلى سيناريو شعبي يتكفل وحده بإنهاء الدكتاتورية العائلية، ورد الاعتبار لطريق المقاومة المدنية والعصيان السلمي، والمبادرة إلى تقديم مثال ملهم على نحو ما جرى في مظاهرة 13نيسان (أبريل)، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
' كاتب مصري
Kandel2002@hotmail.com
Comments