تصريحات 1 مايو على لسان عمال سريحة غاضبين


تحقيق اعدتة ياسمين مجدى روائية مصرية


العمال.. الأبناء التاريخيين للثورات والإضرابات, فمنهم يبدأ الحنَّق الاجتماعي في التصاعد, ليعكس وضع المجتمع. وفي محاولة لمعرفة أوضاعهم الآن كان هذا التحقيق مع "عمال سريحة", يخرجون كل يوم بحثًا عن رزق قد لا يأتي, وهم بداخل الحنطور, أو المركب, أو الحديقة, أو الميكروباص. سردوا لنا تفاصيلاً مليئة بالمرارة, وبالرقة أحيانًا, لكنهم أصروا على رفع كؤوسهم في نخب عيد العمال, ومصطلح الرضا الوظيفي, وحقوقهم الإنسانية والنفسية كبشر!

***

"كل واحد عارف شمس داره تطلع منين", وهاني الصياد يريد أن يصبح "زي اللي عايشين في البيوت", فيحمي داره أو قاربه الصغير, ليصلح للعيش فيه مع زوجته وأبناءه, بوضع مشمع فوق المركب كأنه خيمة, ويتغطى مع أولاده بالبطاطين القطيفة, ويطهون طعامهم على الباجور, كما اشتروا طفايات حريق, حتى لا يؤدي الباجور إلى أي حريق.

ورث هاني مهنته عن أبيه وجده, الذين كانوا يتركونه وهو صغير في المنوفية, في قريتهم, (الباجور), ليكمل تعليمه, بينما يأتون هم للصيد في القاهرة, وآخر الأسبوع يعودون إليه, إلى أن ترك التعليم, وجاء معهم إلى القاهرة ليصطاد, متعلقًا بأبيه, والبحر, لكن ما أن جاء إلى البحر الذي أحبه حتى اكتشف أشياء كثيرة يقول عنها: "البحر غدار, يوم فيه, يوم مفيش, وفي الشتا متلاقيش سمك, وفجأة يديك جامد في شهر سبعة, ويرجع يقف تاني. كمان بيهيج علينا, بس أحنا بنعرفه قبل ما يهيج من الهوا, فنقف على جنب لغاية ما تعدى الهوجة. وربنا بيلطف, لأن مفيش حاجة سترانا غير المشمع اللي فوق المركب. كمان مشكلة تانية في الشرطة اللي بتيجي آخر كل سنة تعمل لنا محاضر, المحضر بحوالي 150 أو 200 جنيه. والمركب نفسها مُكلفة, تمنها ألفين جنية, وكل سنة بتحتاج تصليح بحوالي 800 جنيه".

وفي ظل هذا الوضع المتعب لم تحتمل زوجته, لأنه كما يقول: "اتجوزتها مكنش ليها في كار الصيد, لكن معايا بقت تطلع زيها زيي تصطاد, وترمي الشبك, وتجدف, لكنها مش قادرة تستحمل الشغلانة دي, ودايمًا تتمنى أني أغيّرها, لكن أعمل إيه, لو طلعت عالبر دلوقتي لا هلاقي وظيفة ولا حاجة, أحنا مستحملين كل ده علشان أكل العيش. بس الحلو اللي في الشغل أن الصيادين بيقفوا جنب بعض, الصيادين بالذات كويسيين مع بعض علشان هما بيشوفوا سوا هوايل البحر".

يحاول هاني أن يعيش حياته بشكل طبيعي, وهو أب لثلاثة أطفال. يرسو, أحيانًا, بمركبه على الشط ليتمكن أولاده من اللعب. لكنه أكد في النهاية: "أنا بكره البحر, مراتي عندها حق تقولي غيَّّر الشغلانة, البحر بهدلة".

ليس حبًا

أثبت أغلب من تحدثنا إليهم أنه ليس حبًا, أبدًا, الذي يجمعهم بمهنهم, وكان منهم بائع الدندورمة "الآيس كريم", الذي يلف بدراجته طوال النهار, والذي قال حين سألناه: "يا ست سيبينا في حالنا علشان خاطري, خليني ألحق العيال قبل ما يخرجوا من المدرسة"!

من الغاضبين, أيضًا, سائقو الحناطير, وأكثرهم حنقًا هو مجدي, الذي أعلن منذ البداية أن أي مهنة ستكون "أحسن من البهدلة". أما ماندو فهو طفل في حوالي الثانية عشر من عمره, ترك التعليم, وعمل على الحنطور, ورغم أنه يحب حصانه, ويحممه بالشامبو, إلا أنه يتمنى أن يترك تلك المهنة, خصوصًا بعد أن وقعت له حادثة بالحنطور تركت ندبة في وجهه, وعلَّق مجدي, قائلاً عنه: "الحصان بياكل بأربعيبن جنيه, لو الواد مندو لقى الفلوس دي مش كان كمل تعليمه"!

وعن حصان العربة قال محمد, وهو أحد سائقي الحنطور: "الحصان طير وفي, بيحب اللي يحن عليه", وأضاف فرغلي, وهو سائق آخر: "ممكن أدلع الحصان, وأجيب له سكر وأرواح آخر اليوم, وأطوَّقه, علشان ينسى الشقى بتاع طولة النهار, ولو راعيته ربنا يراعيك, ده طير أخرس شغال ببطنه, لا بيقولي هات, ولا أديني, وبيشقي طول النهار,لازم أدلعه علشان ميحسش بالشقى". وعن أكثر الأشياء, التي تتعب سائقي الحناطير هي الشرطة حين يقبضون عليهم كل فترة, ويعيش السائق في القسم قلقًا على حصانه, خشية أن يجري, ويخبط في السيارات!

وفي دنيا الميكروباص توقعنا أن نجد علاقة خاصة بين السائق وسيارته, خاصة وأنهم يهتمون بتزيينها, وإضاءتها, لكن اتضح أن مشكلاتها تجعل سائق, مثل محمد يعيش ضغوطًا نفسية, بدأت في 2003 حين اشترى أبوه وأخوته ثلاثة ميكروباصات, فتحول مصيره من خريج معهد تبرييد وتكييف إلى القيادة, وأصبح الميكروباص "مجرد صدفة", و"رزق".

يضطر أن يحتمل كل ذلك ليحصل على قوته, متجاوزًا عن كلمة "أطلع يا حيوان" التي ينادي بها الضباط سائقي الميكروباصات, على الرغم من أنهم ينادون أصحاب العربات الملاكي قائلين "يا أستاذ!", كما يتغاضى عن "مشاوير المباحث", التي تأخذ السيارة لعمل مصالح خاصة للضباط.

إلى جوار كل ذلك يبتلع محمد سُباب سائقي السيارات الأخرى, وكلام الزبائن, مثل "أنا مش هأدفع غير كده, لو مش عاجبك إخبط دماغك في الحيط", كما تؤرقه الزحمة, ويعاني, أيضًا, من ضعف في الإبصار بسبب تركيزه في الطريق. أكثر ما يضايقه هو أن "الحسنة تخص, والسيئة تعم, ولو سواق طلع وحش يقولوا السواقين وحشين لغاية ما بقت البلد كلها ضد سواقيين الأجرة". ومن الأشياء الأخرى, التي يكرهها, كما قال: "تقولي أكره أيه؟ أقولك أكره أمشي ورا موتوسيكل, أو واحدة ست, وأحسن لي أمشي جنب مقطورة, ولا أمشيش جنبهم"!

وللسيارة معزة خاصة لدى محمد, لأنها تحس به, وقد تكون موشكة على التعطل, لكنها تكافح لتكمل معه الطريق, ولا تتوقف إلا أمام البيت. وبالمقابل يحسن معاملتها, كما يقول: "عمري ما بخلت عليها, باصونها, وأوضبها زي البيت, ولو بخلت عليها هتبخل عليه, وأنا مسميها (فاندام), لكن الله يسامح المرور اللي شال الاسم من عليها"

علاقات خاصة

رغم حنق كثر من الناس على مهنهم إلا أن عم سيد الجزمجي تحدث بابتسامة واسعة, تألقت فيها عيناه الخضراوتان, وهما يطلان من وجهه المعبَّق بتجارب الزمن. قال عم سيد: "أصلي الفجر, وأطلع لرزقي, وآخر اليوم أصلي العشا, وأتكل على الله أروح. عمري ما كرهت الشغلانة دي, ولا حسيت أني ضعيف لما واحد يحط جزمته في وشي ألمعها له, علشان اليد العليا خير من السفلى, والواحد عايز ياكل من الحلال, أحسن ما يمد إيده. وأنا مزعلش من الزباين حتى لما يطولوا لسانهم, لأن الناس بقت بعيدة عن ربنا دلوقتي, فهيعاملوني إزاي يعني؟! المشكلة في الشرطة والبلدية اللي بيجوا يلمونا كل شوية, وفي ولاد الحرام اللي سرقوا مني عدتي الغالية عليه".

متفائل آخر, يبلغ 17عامًا, وينبع تفاؤله من الورود, التي يرعاها منذ كان في السابعة من عمره, هو محمد الجنايني, الذي أحضره والده للعمل في المشاتل, ففرح بإنه سيبقى مع الورد. في البداية كان صاحب المشتل يجلس معه, ويعلمه, إلى أن تَشَرَّب الصنعة, وتركه, وحده, مع الورود, التي يقول عنها: "بقعد مع الورد من الساعة عشرة الصبح لغاية المغرب. بحب الورد, ومعني الحب أني أديله سماد, مية, دواء. هأبقى عايز إيه أكتر من القعدة في المكان الحلو ده مع المية والزرع, والنباتات المختلفة من ورد بلدي, جارونيا, أرسيل, فل,هابوسكي. الزرع ممكن ميتكلمش, لكنه بيحس بصاحبه, لما يلاقيه زعلان يزعل, وحسيت بده معاه لما بزعل, فألاقيه يزعل, ويعطش, والمثل بيقول "الزرع لما بيشوف صاحبه يربي".

ويضيف محمد: "كمان المهنة مريحة, حتى الهاموش اللي مالي المكان بيمشي أول ما الشمس تطلع وتغطي الورد. وساعات أجيب التسجيل بتاعي أسمع أغاني جنب الورد, والنيل. ومن ناحية المكسب, فهي بتكسب, وأنا ببيع قصرية الفاكهة بـ15 جنيه, ما عدا العنب بـ 30 جنيه. مقدرش أقول أن فيه حاجة تضايق في الشغل ده, لأني أتربيت عليه, ومقدرش أسيبه, ومتعلمتش غيره".

أمام هذه النماذج, التي تمارس عملها على مركب, أو ميكروباص, أو حنطور, هناك من يعمل في الشارع, ومهنته هى الجلوس لمطالعة الناس, والحصول على رزقه من أهل الخير, الذين يسمونه مجنونًا, فما هى علاقته بذلك الشارع, سؤال حاولنا معرفة إجابته منه, فقال: "الشارع وحش, والناس وحشة, وبتضايقني, أوعي تقفي تكلمي حد في الشارع, أوعي حد يعاكسك في الشارع وتردي عليه, أوعي حد يديلك حقنة, طبعًا أنتِ عارفة الدين, كله. وبتعرفي إنجليزي هاكتب لك الكلمة دي". وأخرج ورق من تحت فرشته الكائنة على كورنيش إمبابة, وكانت الورقة ممتلئة بحروف إنجليزية كبيرة, وقال عنها: "كنت متضايق شوية, وكتبت اللي مزعلني من الناس, الناس بقت وحشة مبتعرفش ربنا, طبعًا أنتِ تعرفي الدين, وعارفة أم مريم اسمها ايه, اسمها أسماء, وخلفت عيسي, عيسى دبدب برجليه طلع ميه, بس المية الحمرا بتاعت نوح عليه الصلاة والسلام كانت قبلها".

هذا الرجل يثير الريبة, لأن الكلام الذي يكتبه في أوراقه يؤكد أنه متعلم جيدًا, ومتقن للإنجليزية, فهل هؤلاء الرجال, الذين كنا نتوقع أن يكونوا قادة المستقبل, والعمال المهرة, هم الذين استسلموا للضغوط النفسية والمهنية الكثيرة, التي تعلن عن نفسها متحدية كل أعياد العمال, لتسلِّم صاحبها في النهاية إلى الشارع. يبدو أن الزمن تغير, وأننا لن نسأل السؤال المعتاد للأطفال: "تحب تطلع إيه؟", لأن الناس أصبحت تختار "أي وظيفة ناكل منها عيش", لأنه في النهاية "آخر المعروف ينضرب بالكفوف", و"إن فاتك الميري أتمرغ في ترابه". وما أثقل التراب على كرامة الانسان



Comments