يوماً كاملاً مع عم عبد العظيم عامل اليومية

كتب - ربيع السعدني 
 
عم عبدالعظيم الاسيوطي- عامل يومية بسيط في مجال الانشاءات المعمارية- حاله كحال أغلب العمال المصريين أغلب من الغلب، قضي معظم حياته علي الرصيف في انتظار رزقه المعتاد هو وعشرات بل مئات وآلاف المصريين الذين جاءت عليهم الثورة بالخراب والجلوس في البيوت نتيجة توقف سوق المعمار فصار ناقماً علي الثورة المصرية ويلعن فيها والرئيس المخلوع في آن واحد نتيجة أنه لم يدخل إلي بيته قرشاً واحداً من مهنته ومهنة آباءه وأجداده منذ يوم 25 يناير من العام الماضي، التقيته علي رصيف الحي العاشر بزهراء مدينة نصر،منتظراً رزقه من السماء وكان يحمل علي كتفه نحو ثلاثين كيلو حديد بآلة نحاتة ومسامير ومرزبة ومطرقة حديد"عدة الشغل" وانتظرت معه عدة ساعات علي الرصيف في انتظار أن نخرج سوياً لمكان عمله لرصد مدي المعاناة التي يلاقيها في يومه ولكن بلا زبون واحد من صباحية ربنا حتي تخطت الساعة الثانية ظهراً، فاتجهنا سوياً نحو بيته الصغير(50 متر)بشارع الاسايطة في عزبة الهجانة حيث اشتراه منذ 15 عاماً بعد أنترك أهله وناسه في أسيوط وباع الخمسة قراريط التي ورثها عن أبيه لشراء هذه العشة الصغيرة تحت أسلاك الضغط الغالي في أفقر مكان في القاهرة واسوأها حالاً في منطقة(4,5) بعزبة الهجانة، حيث الجوع والفقر والبؤس والمرض والشوارع الضيقة والمياة الملوثة"إن وجدت" حيث تمر عليهم ايام في الصيف لا يجدون كوباية مياة يشربونها وفوق هذا كله الحياة تحت أسلاك الموت التي تمر فوق معظم بيوت العزبة ومن ثم فماذا نتوقع من هؤلاء الأشخاص سوي الثورة علي الثوار ذاتهم لأنهم لم ينتشلوهم من واقعهم المرير إلي واقع أخر أكثر ءادمية حتي اليوم رغم مرور عاماً كاملاً علي خلع الرئيس السابق، هؤلاء مازالوا مفعولاً بهم حتي الآن.

عبد العظيم عمر عبدالعزيز من مواليد عام 66، متزوج ولديه ثمانية أبناء جاء إلي القاهرة بحثاً عن حياة افضل وسط ضجيج العاصمة، فعاشبين أسواقها وقضي جل حياته علي أرصفتها وشوارعها حيث كانت الحياة تبتسم له من حين لأخر ويرزق بما يكفيه وعائلته الكبيرة لكن مذ أن قامت الثورة حتي الآن لم يدخل جيبه جنيهاً واحداً من مهنته ومهنة أباءه وأجداده في المعمارويقسم لي علي ذلك ،فكل رجل أعمال خائف علي أموالهوقال بالحرف الواحد"احنا لا مؤاخذة عايشين علي السلف" فأسوأ ظروف عشناها في مصر منذ عام مضي وابنه الاكبر"علي" دخل الجيش لأداء الخدمة العسكرية ويتبقي امامه ثلاثة شهور ليشاركه في مصاريف البيتولديه أيضاً خمس بنات وصبيين عمر ومحمد ووالدتهم ومن ثم فإن العيشة صعبة جداً علي حد وصفه .

ويقارن أبو علي بين يوميته قديماً (كنحات)والتي كانت مقاولتها لا تتعدي العشرين جنيهاً في الوقت الذي كان فيه كيلو اللحمة لا يتجاوز الخمسة جنيهات حيث كانت هناك قيمة للقرش والجنيه المصري، لكننا اليوم لو وصلت يوميتنا لمائة جنيه فإنها لا تكفي المعيشة علي الفول والطعمية فحسب فما بالنا لو فكرنا مجرد تفكير أن ناكل لحمة فهذا يكون بمثابة يوم عيد للعائلة رغم أن كيلو اللحمة في الجمعية بأربعين جنيه فلا تشعر لها بطعم او قيمة قائلاً "هو وقلته واحد"،مؤكداً أنه لم يذق وأهله رائحة اللحم منذ أكثر من شهر تقريباً بعد أن كان ياكلها قبل الثورة أسبوعياً فضلاً عن أن كيلو الهياكل والأجنحة وأرجل الدجاج التي كنا نتأفف أن نأكلها ونلقيها للقطط صارت اليوم بعشرة جنيهات وكيلو الفراخ بعشرين جنيه ومن ثم فلم نعد نفكر في مثل هذه التحف والانتيكات واكتفينا في وجبتي الإفطار والغداءعلي العيش والفول والطعمية والبطاطس والباذنجان والجبنة بما يقرب من عشرين جنيه يومياً باستثناء وجبة العشاء؟

"كان فيه حرامية بس كنا شغالين" هكذا عبر عم عبدالعظيم عن السنوات الماضية خلال عهد الرئيس السابق، حيث كانوا يبنوا الفيلل والعقارات ولا تفرق معهم يومياتنا بحال من الاحوال فكلهم بلا استثناء حرامية بما فيهم المشير طنطاوي ذاته حيث يمتلك وحده 12 فيلا وقصر في التجمع الأول والخامس علي حد قوله فضلاً عن اللي معه شاليهات في العجمي والاسكندرية وعقارات في السويس وشرم الشيخ ومختلف المحافظات فحتي لو اتحبس هؤلاء فلاشك أن أولادهم وأحفادهم سيكونون في راحة تامة ونعيم كامل لعشرات السنين القادمة واكتفي بهذه الكلمات" اوعي تفكر إن فيه حاجة اتغيرت، ولو لم يبعث إلينا ربنا بواحد صافي بن حلال عمر البلد دي ما هتقف علي رجلها" ورغم أنه يوجد مستودع غاز في العزبة الا أنهم يبيعونها في السوق السوداء بأربعين وخمسين جنيهاً "بيوزعوها من بره بره" والأهالي منتظرين أمام باب المستودع لما يزيد علي ثماني ساعات(من الساعة الرابعة عصراً حتي الثانية بعد منتصف الليل) في انتظار أنبوبة غاز بعشرة جنيهات في الوقت الذي توزع فيه إلي اسرائيل بدولار واحد فقط وفي النهاية نعد لبيوتنا بالأنبوبة فارغة كما هي؟ فضلاً عن رغيف العيش الذي نقضي الوقت المتبقي من اليوم في طابور العيش منتظرين بخمسين قرش عيش ونحصل عليه بالخناق والزحام والاشتباكات والمعارك وطلوع الروح وخاصة أن أصحاب الأفران لا يزالون يبيعون الدقيق المدعوم من الدولة للتجار في السوق السوداء والشعب المصري يضرب راسه في أقرب رغيف"إن وجده".

وكثيراً ما تحدثنا مع مسئولي الحي والمحافظة وأعضاء البرلمان ولكنهم ودن من طين والتانية من عجين باستثناء النائب السابق مصطفي السلاب رحمه الله الذي عهدنا فيه الخير دائماً في الانتخابات ومن قبل الانتخابات حيث كان يوزع لي البيوت(أرز،دقيق،فلوس،لحوم،...) ويذكر أبو علي أنه تزوج علي ستة عشرة عاماً بثلاثة آلاف جنيه فقط تكاليف الجهاز والأساس والمهر والشبكة والزفاف لكن النهاردة لا يكفي الشاب مائة ألف جنيه زواج بسبب النفوس والضمائر التي خربت والطبقة الوسطي التي فُطست فإزداد الأغنياء ثراءاً وعايش خارج العزبة وأبراجه هنا ايجارها يقصم الظهر في الوقت الذي ازداد الفقراء فقراً وجوعاً وتشريداً لدرجة النوم في المقابر حتي اعتادنا علي حياة العدم ويضيف أبو علي لو أكلت الناس اللي ساكنين في العزبة سم مش هيأثر عليهم(جسمهم جلد علي كده)ويقسم بالله إذا ما ابتلعوا الزلط فلن يصيبهم مكروه أو سوء بس يعطونهم الزلط فقط؟

ويلقي أبو علي في حديثه باللوم علي مبارك الذي مسح الدولة بالكامل ووضعها في جيبه وجيوب ولاده ثم هل تعلم إني لو هناك شغل كنت هاعيش العيال أحسن عيشة وأعلمهم أفضل تعليم لكن للاسف مفيش خالص ،فهنا ناس جعانة ممكن تأكل في بعضها البعض م الأخر 4,5 ناس ميته من الجوع، احنا عايشين تحت الأرض ولو فكرت أرفع رأسي لفوق واتطلع لمن هم فوقي أصطدم دائماً بأسلاك الضغط العالي التي تعلوا بيوتنا جميعاً ومن ثم فالواحد منا يتمني الموت كل لحظة ليرتاح من معيشة الذل والدون هذه، بعد أنغرست الحكومة الرعب والخوف في قلوبنا لدرجة أنك لو رأيت أخاك يتعارك مع بلطجية تتركه وتمضي بعيداً ولو رايت أمامك قتيلاً في الطريق تخشي أن تحمله للمستشفي أو تطلب له الاسعاف خوفاً من أن تلبس قضيته وأنا رجل معي كوم لحم إذا ما سجنت فمن يرعاهم من بعدي فثمة عصا غليظة نازلة فوق راسي ولن يرحمني أحد" ورغم جو الحرية والانفتاح والثورة التي حدثت فلا يزال عم عبدالعظيم يخاف من الحديث في السياسة،موضحاً أنه لا يفعل ذلك خوفاً علي نفسه من الموت إنما خشية ان يموت أولاده من الجوع من بعده وبالتالي فماذا أعمل أسرق لا اعرف فلم يعلمني أبي أو أخي أو عمي أو خالي أو جدي السرقة حتي أرث تلك الصنعة عنهم .

وأوضح أبو علي أنه لم ينزل التحرير قط لان وراءه كوم لحم في حاجة ماسة للاكل والشرب ففرضاً أنني نزلت الميدان واتسجنت بعدها فماذا سيكون مصير أولادي سوي الفقر والتشريد وتصير عيال شوارع لكن لو ولدي الكبير موجود كنت فعلاً نزلت مع المتظاهرين واعتصمت هناك بقية عمري وعلي استعداد للذهاب إلي اسرائيل ذاتها لأصرخ من شدة الظلم والقهر والفقر والجوع الذي نحيا فيه ليل نهار بفضل مبارك وحكومته ونظامه الذي لم يسقط بعد بدليل أننا لم نجد قوت يومنا حتي اليوم وبينما هو يتحدث إلي سالت الدموع من بين عينيه الطاهرتين من شدة الضنك الذي يلاقيه فربطت علي كتفه ومسحت دموعه بيدي وقلت له ربنا كبير يأبو علي صلي ع النبي فقال لي"والله الدم هيفط من عيني بدل الدمع علي حالي وحال بلدي".

ويري عم عبد العظيم ان التغيير لن يحدث في مصر الا بعد أن يتم تطهير كافة مؤسسات وهيئات الدولة من رجال حسني مبارك بما فيهم المجلس العسكري الحاكم وليس معني كلامي أن يضربوا بالرصاص لنتخلص من سمومهم ولكن علي الأقل أن يتركونا في حالنا لكي يعيش ذوينا في أمان واستقرار ولكنه لم يخفي تعجبه الشديد من تعامل الدولة مع المخلوع، متسائلاً "هو فيه حرامي وقاتل في الدنيا كلها يركب طيارة لكي يذهب للمحكمة؟ أنا عن نفسي لو كنت مكان القاضي لقطعته بأسناني لكنه يتراجع بعض الشئ حينما قلت له أن المجلس العسكري يدير مصر بطريقة مبارك فألقي باللوم علي الشعب المصري الذي وصفه بأنه شعب فرعوني لا يتحرك الا بالكرباج وحينما ذكرته بأن الثورة وقعت لتغيير تلك السلبيات التي تحتاج لعشرات السنوات فأخذ يعدد لي مآسي الشرطة تجاه أبناء عمومته السنيين داخل المساجد وبعد الصلاة فعائلتنا كلها سنية ولا نخشي من الحكومة أو ضرب النار، لكن أن يقتلوا ثمانية من ابناء عمومتي من شدة التعذيب في السجون والمعتقلات بأمن الدولة بتهمة أنه يوحد الله ويعبد ربه ويصلي ويطلق لحيته ويدور يوزع فلوسه لله وكان أخرهم محمد صالحين عبدالعزيز وصولاً إلي عمال اليومية الغلابة علي السوق الذين كانوا يسوقونهم في بوكس الداخلية ليأخذوا منهم اتاوات ومن لم يدفع يا ويله ويا سواد ليله "لما يوصي عليه الضباط ورؤساء المباحث" ويلبسه عشرات القضايا والتهم "فرد سلاح،بودرة" كان أخرها نحات معنا علي السوق لبسوا له فرد فلولا أن وكيل النيابة يعرف الله لكان في السجن حتي الآن حيث قال له"وكيلي ووكيلك الله وانكب علي كتاب الله وأقسم له أنه أول مرة يري هذا الفرد" فاخرجه من سرايا النيابة فوراً" موضحاً أنهم ينظرون لجلستهم هذه علي الرصيف وكأنهم متسولين وكثيراً ما حرروا له محاضر تسول في القسم لأنه لم يدقع للسيد أمين الشرطة السبوبة والاصطباحية والاتاوة واتسجن عم عبدالعظيم مرات عديدة وكهربوه في قسم الشرطة أكثر من أربعين مرة وضربوه وعذبوه نتيجة انه يرفض التوقيع علي محضر التسول ويعرض علي النيابة وفي كل مرة يخرج من هناك وهكذا لدرجة أن وكيل النيابة سأله ذات مرة "انت ايه حكايتك؟ فقللت له والله يا باشا ما اعرف يمكن لأني لا ادفع لأمناء الشرطة والله وحده الذي يعلم أني لا املك ثمن أكل أولادي؟ ثم يتساءل هم يفعلون معي ذلك رغم أني لا اتحدث عن السياسة فكيف لو فكرت في نزول الشارع والهتاف ضدهم أظن كانوا ضربوني بالرصاص؟

بعد الثورة الأوضاع اختلفت والمعادلة انقلبت فلو فكر ضابط شرطة ينزل لنا هنأكله لرد كرامتنا المهدرة علي أيديهم سابقاً ولولا الجيش والقوات المسلحة لما كان لهم قيمة اليوم، كان معنا شباب من سوهاج يعملون في مجال الحفر لكابلات الكهرباء في الطرقات رغم أن مؤهلاتهم وشهاداتهم العليا تؤهلهم للعمل كوكلاء نيابة ومهندسين كهرباء ومحاسبين ولكن ميزان العدال لا يزال مختلاً؟ وهذه الاوضاع ستستمر حتي يرزقنا الله برئيس بن حلال عادل "المهدي المنتظر كما يقولون" بمساعدة مجتمع نظيف راضي بالحلال، لكننا اليوم ورغم ثورة 25 يناير حالنا وشغلنا واقف لا قوات مسلحة ولا شرطة ولا حكومة نافعين أو قادرين علي اخراجنا من أزماتنا ومشاكلنا ثم يتساءل ما الذي وفروه لنا؟ ويرد علي نفسه ولا حاجة فسالته عم يريده؟ فأكد إنه عايز يشتغل زي زمان ويأمل أن يكون حاله أقل من الناس لكن يعيشوا ويكون هناك وظيفة تضمن له دخل ثابت هو وغيره .

وسألته عن أوان التغيير الحقيقي متي سيحدث؟ فرد علي لما القلوب تنضف واللي ساكنين في القصور يحسوا باللي عايشين في القبور وحينما يطبق العدل علي الغني قبل الفقير وعلي الكبير قبل الصغير وعلي الوزير قبل الغفير وحينما تحقق العدالة بين الجميع وقتها ننتظر مصر جديدة، لكن لو قلبت في العزبة فقط ستفاجأ بالبلاوي التي تشيب من هولها الولدان.

Comments