ابراهيم عيسى يكتب جمال عبد الناصر يحضر مباراة مصر والجزائر


لا يمكن أن نحاسب شعبا أو نحكم علي صفات وسمات وأفكار شعب من خلال جماهير كرة القدم، هذا محض تفاهة وفراغة عقل، ومن ثم فالتوتر الحاصل بين مصر والجزائر حول مباراة حاسمة فاصلة في كرة القدم للصعود إلي نهائيات كأس العالم ليس متوقعا لأي من البلدين أن يحققا فيها شيئا أكثر من التمثيل المشرف إنما هو توتر حادث وحاصل بين جمهورين وليس بين شعبين.

  • فرق كبير شاسع بين الشعب والجمهور، بين المواطن والمشجع.
  • فالشعب يتحول أحيانًا إلي جمهور يملأه الحماس والتعصب وروح المنافسة ومشاعر الانفجار والتنفيس الملتهب ويملأه التوتر الذي يجعله فاقدا للتفكير المتعقل أو النظرة الموضوعية.
  • هذا مسموح به جدا وطبيعي للغاية في أي بلد ولأي شعب في العالم متحضروه ومتخلفوه.
  • أنت نفسك (أو أنا كي لا تزعل مني) تذهب للاستاد وتتفرج على مباراة وأثناء هذا كله تتحول إلي مشجع مهما كنت وقورا فأنت تزعق وتصرخ وتفرح بهبالة وتغضب؛ لأن الحكم "محسبش كورنر" وتسب في لاعب لأنه "قلش" الكرة العرضية، تصرفات وسلوكيات وألفاظ وانفعالات لا يمكن أن تصدر عنك وأنت تجلس وراء مكتبك أو أمام ماكينة المصنع أو مع مريضك في المستشفي أو بين عيالك، من هنا أفهم هذا اللغو الدائر بين همهمات من مصر والجزائر بمناسبة المباراة الموعودة باعتبارها تصدر عن جمهورين وليس عن شعبين، المشكلة هنا عندما يتورط إعلاميون ورياضيون في التصرف كجمهور فيلبخ ويطين الدنيا بينما المطلوب منه أن يحتفظ بالمتفرج اللي جواه عند لحظات المباراة وفقط!
  • أعرف طبعا أن الكرة ليست بالضرورة تجمع بين الشعوب كما نعرف في قاموسها ونتمني من ممارستها؛ فالكرة بالذات في الوطن العربي شأن أشياء كثيرة في الوطن العربي تتحول إلي ماعزة أحيانا؟
  • لكن هذه الأمثلة وغيرها هي تعبير عن توتر سياسي يجد مسارا وتنفيثا في كرة القدم، السؤال: كيف ومصر والجزائر بلا أي نوع من التوتر بين الشعبين علي أي نحو لما يأتي هذا التوتر وتتفجر تلك الحساسية ثم يتحول الأمر إلى تنغيص سياسي على الجزائريين ومعايرة بالموقف المصري المتضامن مع ثورة الجزائر و"كلام عيال" في موضوعات ناس كبيرة لا يصح أن تدخل طرفا في التنابز بين مشجعي فريقين، ولا يصح أبدا أن نتعامل مع جمهور الجزائر كأنما جمهور الإسماعيلي يكايد في الأهلي أو "الألتراس" الأهلاوي يلقي شماريخ علي جمهور الزمالك.
  • لكن ما الذي يقوله فريق المصريين المهيج للشعب الجزائري؟
  • يقول أمرين:
  • الأول: أن الجزائريين لا يحبون المصريين وأن مبارياتنا معهم يشوبها الشغب والعنف، وأن لاعبيها يلعبون معنا بخشونة وعدوانية.. وطبعاً اللاعبون المصريون ملائكة تمشي على الأرض ولا تخطئ أبداً.
  • الأمر الثاني: أن الجزائريين ينسون مواقف مصر التي وقفت معهم في نضالهم من أجل الاستقلال وفي مواجهة الاحتلال الفرنسي، وأننا ضحينا من أجل الجزائر وفي الآخر يبقي الثمن كراهية للمصريين ومصر.. وغرام بفرنسا واللغة الفرنسية.
  • والحقيقة أنه لا حقيقة في هذه الاتهامات المهيجة التي تعبر في صورة منها عن عقدة المصري المضطهد وشعوره بأن العالم يتآمر عليه أو يضطهده من غير ما يعرف هو ولا هم "بيحقدوا" علينا ليه، أفهم أن الجزائر تحقد علي مصر وصولها لكأس العالم، لو كنا مثل السعودية مثلا نحاول الصعود للمرة الخامسة علي التوالي، أو مثل الكاميرون والسنغال حين حققتا إنجازات ممتازة في كأس العالم، لكن نحن يا حسرة وصلنا مرتين واحدة منهما عام 1934، وكل ما قدمناه هو ضربة جزاء غير صحيحة أحرزنا منها هدفنا الوحيد في تاريخ بطولة مستمرة منذ ثمانين عاما!
  • لنرد الآن علي ما يقوله المتحمسون للخناق في الحارة مع الإخوة الجزائريين:
  • أولا: الجزائريون يحبون المصريين وبصدق ولا معنى لأي كلام عكس ذلك، فليست مباريات كرة القدم دليلا على الحب والكراهية، فالحاصل أن الشغب والعنف يخص مباريات كثيرة في دول أكثر بين فرق بلد واحد ومجتمعات واحدة ولو كانت الدنيا تؤخذ بخلافات الكرة لتمزقت دول إلى شيع وكانتونات ودويلات كل منها يرفع علم فريقه بديلا عن علم بلده، أما الخشونة في الملعب فالحقيقة أنها جزء وسمة من طبيعة اللعب الأفريقي والأوروبي الذي لا يعرف اللعب المرئ والميوعة الشهيرة عندنا؛ حيث يتقلب اللاعب في أرض الملعب مصابا كأنما قرصته عقربة ثم يقوم ولا كأن حاجة حصلت.
  • ثم إن الجزائر ذلك البلد الصلب القوي المناضل، وهذا الشعب الرائع الصادق المباشر الذي ليس له في اللوع باع ولا بالفهلوة دراية هو من استقبل شيخا مصريا عظيما ووضعه في قلبه وروحه وصار الشيخ الأكبر والأهم والمرجعية الدينية في الجزائر وهو الشيخ محمد الغزالي رحمه الله، وكذلك تعامل الشعب الجزائري مع شخصية دينية مصرية عظيمة مثل الشيخ يوسف القرضاوي الذي يتمتع بأكبر مساحة جماهيرية من المحبة والتقدير وأوسع عدد من المريدين والتلامذة في الجزائر. ومن الدين للفن والثقافة حيث محبة الجزائر للثنائي الخالد الشيخ إمام عيسي والشاعر الذي لن يتكرر عمنا أحمد فؤاد نجم اللذين عاشا في الجزائر روحا وجسدا ونجاحا وحبا وفنا يفوق وصف المحبة الجارفة.
  • ثانيا: أما معايرة الجزائريين بأن مصر عملت لهم وفعلت، فالغريب أن هذه المعايرة تأتي من أشخاص يدعون لانعزال مصر عن محيطها العربي ويكرهون التواصل والتآزر بيننا وبين الشعوب العربية.
  • والحقيقة أن مصر فعلت فعلاً الكثير مع الشعوب العربية من أجل تحرر هذه الشعوب واستقلالها، لكن مصر فعلت كدور واجب ومفروض وفرض ديني وعروبي وإنساني عليها ولم تفعل ذلك من أجل إتباعه بالمن والأذي وفعلت ذلك ووجدت من العرب بعدها كل تضامن ومحبة ومشاركة في السراء والضراء، وفي حرب 1973 شاركت قوات جزائرية مع الجيش المصري في الحرب ضد الصهاينة لتحرير الأرض وأرسلت دول أخري أسلحة وطائرات ودبابات، فضلا عن استخدام سلاح البترول الذي كان سلاحا عظيما وعربيا تماما في الحرب، فضلا عن مليارات الدولارات من المعونات تسلمتها مصر منذ نكسة يونيه حتي قرر الرئيس السادات أن يستبدلها بالمعونات الأمريكية.
  • كل ما يتمناه المرء أن يظهر جمال عبدالناصر في استاد القاهرة، يظهر منهجه العروبي والإسلامي (نعم والإسلامي) في التعامل مع قضية الجزائر يوم جاءه خطاب مطول من البكباشي ثروت عكاشة ـ ملحقنا العسكري بفرنسا وقتها ـ يتناول فيه الوضع الحالي للعلاقات الفرنسية المصرية علي ضوء اتصالاته بالعديد من الشخصيات الفرنسية.
  • يروي السياسي المصري الراحل فتحي الديب في كتابه »عبدالناصر وثورة الجزائر«، والمعروف أن الديب كان مسئولا عن دعم الثورة الجزائرية في عصر الزعيم جمال عبدالناصر، إن خطاب ثروت عكاشة كان يهدف تقريبا لوقف الدعم لثورة الجزائر وتشجيعها علي التفاوض مع فرنسا مخافة الانتقام الفرنسي والغربي من مصر: »وتوجهت إلى منزل الرئيس في الموعد المحدد ليستقبلني الرئيس جمال بابتسامته المعتادة مرحبا وبهدوء نفسي غير عادي، وليفاجئني بأنه طرح خلاصة ما جاء بخطاب السيد ثروت عكاشة علي بعض أعضاء مجلس الثورة وناقشهم طويلا وأنه يصارحني بأن الآراء انقسمت بين معارض ومؤيد، الأمر الذي جعله يؤجل اتخاذه لقراره النهائي حتي يستمع إلي ما سأطرحه من آراء باعتباري أقرب المسئولين ارتباطا والتحاما بتطور الأحداث بالنسبة للكفاح بشمال أفريقيا، وطالبني بأن أبدأ فورا بطرح النتائج التي توصلت إليها من دراستي للخطاب توفيرا للوقت.
  • ويكمل المناضل المصري الناصري الأفريقي فتحي الديب روايته في كتابه قائلا: استمع الرئيس عبد الناصر لحديثي الطويل والذي استغرق ما يزيد علي ساعة كاملة بإمعان دون مقاطعة لي، وبدأ الرئيس جمال تعليقه لي أنه سبق وأن أوضح لي أن حرية مصر تظل ناقصة بلا حرية باقي أقطار الوطن العربي، والحرية في مفهومنا لابد وأن تترجم في صورة تضحيات ولن يتحرر الوطن العربي بلا تضحيات، وواجب كل شعب عربي يتحرر أن يتحمل نصيبه من هذه التضحيات، وهذه عقيدة كل الثوار المؤمنين، واستطرد ليقول إنه استمع إلي كل ما طرحته من قناعات وهي لا تختلف كثيرا عما وصل إليه في تحليله للموقف؛ بل يكاد يتطابق وعليه فإليك قراري النهائي: وكان نصه:
  • "الاستمرار في دعم الكفاح المسلح الجزائري بكل طاقاتنا وقدراتنا المتاحة مهما كانت التضحيات التي يتحملها الشعب الجزائري ونتحملها نحن معه كشعب مصر وهذا حقه علينا كثورة تحررية رائدة في الوطن العربي قامت لا لتحرر أرض مصر وحدها بل لتحرر كل الأرض العربية".
  • وانتقل الرئيس ليعطيني توجيهاته وكان منها البدء في إنشاء إذاعة موجهة باللغة الفرنسية للشعب الفرنسي والجزائري لكشف حقائق الدعايات المضللة الفرنسية وإعلان الحقائق أولاً بأول. وموافقته على استخدام الطائرات في تهريب الأسلحة جوا إلى الجبهات الداخلية بالجزائر، وذلك من حيث المبدأ، تاركا لي وضع جميع تفاصيل أسلوب العمل على أن أوافيه بالخطة تفصيلا حين الانتهاء من إعدادها وتجهيز متطلباتها.
  • والعمل على تهريب أكبر كمية من السلاح والذخيرة لداخل الجزائر لتغطية جميع احتياجات جيش التحرير وتسليح جميع مناضليه مع توفير احتياطي مناسب لمواجهة أي طارئ. وغادرت منزل الرئيس في الثالثة بعد ظهر يوم الأربعاء 16 مارس 1956 لأباشر على الفور تنفيذ كل ما تلقيته من توجيهات والسعادة تغمر قلبي بقرار الرئيس جمال عبد الناصر التاريخي وما أكده من معان وقيم ثورية.
  • عندما تتحدثون عن مباراة مصر والجزائر المقبلة وعندما تذهبون للاستاد لمشاهدتها وعندما تنطلق صفارة الحكم معلنة نهاية المباراة.. تذكروا أن جمال عبد الناصر ومصر لم تكن تمنح الجزائر منحة بل كانت تفعل ما يمليه عليها الضمير والواجب وليس بسبب عبد الناصر، نطالب الجزائر بأن تتخلي عن حلم الوصول لكأس العالم، فلتكن مباراة الجزائر مع مصر هي مباراة متوترة وحرجة ومكهربة ومنفعلة وكأنها بين جزائر الإسماعيلي ومصر الأهلي، وسأترك لي فرصة أن أشجع ضمن مرات نادرة الأهلي أمام الإسماعيلي خصوصا أن معظم نجوم الأهلي في المنتخب هم أبناء الإسماعيلي سواء بركات وسيد معوض وشريف عبدالفضيل وأحمد فتحي وأحمد حسن، وأضف إليهم عصام الحضري وهاني سعيد وحسني عبدربه، يبقي في بيتها والله!

Comments