إسرائيل من الداخل.. مصادرة فيلم عبرى يكشف فضائح الخصخصة على الطريقة الإسرائيلية

يقدمها محمد عبود

لابد أنك لن تقتنع، بسهولة، أن هناك تحالفاً بين كبار السياسيين فى إسرائيل وكبار رجال الأعمال لمنع ومصادرة فيلم وثائقى مدته لا تتجاوز ٩٥ دقيقة.

وربما تندهش عندما تعلم أنه على الرغم من اتساع مساحة حرية التعبير هناك، فإن صحفى تحقيقات مشهور تعرض للفصل من عمله بالقناة الثانية، وتلقى تهديدات بالقتل، وباغتيال زوجته وأبنائه، وتلاحقه عدة دعاوى قضائية أقلها ضررا تطالبه بتعويض ٣٣٠ مليون شيكل لصالح عائلة من رجال الأعمال كدست ثروات طائلة من سرقة المال العام.

لكنك قد تدرك أبعاد الموقف عندما تعرف أننا نتحدث هنا عن فيلم «طريقة الشكشوكة» الذى يكشف عن تورط رئيس الوزراء الحالى بنيامين نتنياهو، والسابق إيهود أولمرت فى إهدار مئات الملايين من الدولارات المملوكة للدولة فى صفقات مشبوهة لخصخصة «القطاع العام»، بدأت منذ عام ١٩٩٦، ومازالت مستمرة حتى اليوم.

الأسبوع الماضى، شاهدت لك فيلم «طريقة الشكشوكة» فى عرضه الأول بعد عملية منع رسمية استمرت عاما بأكمله. إلى أن نجحت ضغوط الرأى العام فى إنقاذ فيلم الصحفى «ميكى روزنتال» الذى يوصف بـ«مايكل مور» الإسرائيلى. وإليك خلاصة أهم مشاهد الفساد فى هذا الفيلم الذى أكد «كتاب الرأى» فى الصحف الإسرائيلية أن مشاهدته فرض عين على كل إسرائيلى يريد أن يعرف كيف تدار «العمليات القذرة» فى تل أبيب.

يبدأ الفيلم باستعراض قصة الملياردير الإسرائيلى الأشهر «سامى عوفر» الذى لا يمر يوم دون أن يظهر اسمه فى الصحف مصحوبا بتبرع لمتحف تل أبيب، وتبرع آخر لجمعية مكافحة السرطان، وتبرع ثالث لبناء استاد حيفا، وتبرع رابع لأحد الأحزاب!

لكن الواقع يؤكد أن سامى عوفر يتبرع باليمين، ويسرق المال العام باليسار. فقد بدأ الملياردير الإسرائيلى حياته فقيرا معدما. يساعد أبيه الذى يعمل «شيالاً» فى ميناء حيفا عام ١٩٢٤. وكان رأسمال العائلة يتلخص فى «عربة كارو» يجرها حصان.

وبعد فترة طويلة من التسكع فى الميناء، أصبح سامى عوفر وأخيه «يولى» المهاجران من رومانيا وحوش الميناء، بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وشرعا ينسجان العلاقات مع حكومة بن جوريون. وتمكنا من شراء سفينة صغيرة، وإقامة شركة صغيرة للنقل البحرى.

واستغلا عمالة رخيصة تعمل فى ظروف غير آدمية، لتحقيق ثروة كبيرة. لكن إسرائيل لم تحقق طموحات العائلة، فقرر الأخ الأكبر «سامى» الهجرة إلى أمريكا للعمل فى سوق العقارات. وظل فى واشنطن حتى انتقلت إسرائيل إلى تطبيق نظام الخصخصة فى منتصف التسعينيات، فعاد لتجربة حظه مع حكومة نتنياهو (١٩٩٦- ١٩٩٩).

ومنذ عاد سامى عوفر لإسرائيل أدرك أن ثروته قابلة للتضخم عشرات المرات، لو نسج علاقات قوية بقيادات الدولة. وفى لمح البصر أصبح صديقا مقربا من معظم القيادات الإسرائيلية فى شتى الوزارات. وتقرب من نتنياهو، وأقنعه بشراء «شركة إسرائيل العامة»، وهى واحدة من أهم شركات القطاع العام التى تحتكر صناعات التعدين فى البحر الميت.

وفى صفقة مشبوهة قرب انتهاء ولاية نتنياهو ١٩٩٩، نجحت عائلة عوفر فى شراء الشركة بـ ٣٣٠ مليون دولار فقط. بعدما تساهلت الحكومة فى تقدير أصول الشركة. ويكشف الفيلم الوثائقى أن قيمة الشركة السوقية تضاعفت خلال ثمانى سنوات، حتى وصلت إلى ٨ مليارات دولار. والطريف أن الحكومة احتفظت فى العقد بتحصيل ٥% من أرباح المشروع سنويا. لكن سامى عوفر أكل حقوق الدولة بطريقة مبتكرة.

فقد أنشأ شركة وهمية لشراء إنتاج مصانع التعدين بأسعار زهيدة. لتخرج الشركة خاسرة فى نهاية كل سنة مالية. وفى الواقع كان «سامى» يعيد بيع الإنتاج بأسعاره الحقيقية بعيدا عن الشريك الحكومى، ويحقق أرباحاً قدرت بمئات المليارات من الدولارات.

طعم الملوحة والفساد فى صفقة البحر الميت لم يمنع الحكومة من التعامل مجددا مع عائلة عوفر، وانفتحت شهية سامى عوفر لابتلاع مشروع استراتيجى جديد فى مجال النفط. وكان أولمرت وقتها قائما بأعمال وزير المالية فى حكومة شارون. وكان عوفر قد اتفق مع الدولة على شراكة فى مشروع مصافى تكرير النفط بحيفا. واستحوذ على ٢٦% من أسهم الشركة الحكومية «بازان».

وعلى الرغم من أن الإدارة بقيت فى قبضة الحكومة التى تستحوذ نصيب الأسد من الأسهم، فقد نجح عوفر فى الانفراد بالقرار المالى، بعدما أغرى المسؤولين الحكوميين بمناصب رفيعة فى شركاته محجوزة للمتعاونين معه. وكشف المحاسب العام فى إسرائيل «يارون زليخا» أن شركة «بازان» كانت تستأجر سفينة بحرية مملوكة لشركة سامى عوفر بـ ١٩ ألف دولار يوميا، على الرغم من عدم احتياجها لهذه الناقلة البحرية! لكن الطريف أن شركة النفط الحكومية تعيد تأجير السفينة لطرف ثالث بـ ١٥ ألف دولار يوميا. وتخسر يوميا ٤ آلاف دولار تصب فى حسابات عائلة عوفر!

فضائح الفساد فى شركة النفط دفعت الحكومة لسحب حق الانتفاع الذى يسيطر من خلاله سامى عوفر على ٢٦% من الأسهم. لكن عائلة عوفر رفضت تسليم الشركة. وطلبت تعويضا ماليا ضخما أو الاستحواذ على جميع الأسهم.

وعندما تعثرت المفاوضات، قرر سامى عوفر الاستفادة من علاقاته الوطيدة بإيهود أولمرت الذى يواجه اتهامات بالفساد، ويعانى من حملة إعلامية تقودها «يديعوت أحرونوت» أوسع الصحف الإسرائيلية انتشارا.

وبما أن «رافى جينات» رئيس تحرير يديعوت أحرونوت، فى ذلك الوقت، يسعى للعمل مديرا للقناة الثانية التى تملك عائلة عوفر امتياز إدارتها. تلاقت مصالح رجال السياسة والصحافة والأعمال.

فوافق أولمرت على الصفقة مقابل إيقاف الحملة ضده. ولم يتبق لإنهاء الصفقة سوى توقيع المحاسب العام السابق للدولة «نير جلعاد» الذى أصر على اقتسام الغنيمة. وبالفعل استقال من منصبه بعد ستة أشهر من عقد الصفقة، ليصبح مديراً عاماً لنفس شركة النفط التى صارت ملكا لسامى عوفر! وانكشفت الفضيحة عندما اضطر «رافى جينات» لفصل صحفى فى «يديعوت» كان يعد تحقيقا مدويا عن فساد عائلة عوفر وكبار المسؤولين.

كلما مرت مشاهد الفيلم المصحوبة بموسيقى تصويرية ساخرة، يستقر فى وجدانك أن الموسيقى لغة عالمية، والفساد أيضا. فربما لا يمر يوم حتى تقرأ باللغة العربية عن صفقات مشابهة، يلعب فيها دور البطولة أشخاص مختلفون. ففى عام ٢٠٠٢ عرضت عائلة عوفر شراء شركة النقل البحرى العملاقة «زيم» بمبلغ ١٤٣ مليون دولار.

على الرغم من أن الشركة تمتلك حاويات تقدر بـ ٢٦٠ مليون دولار، وتصل قيمة أصولها لـ ٢ مليار دولار. وعلى الرغم من معارضة الإسرائيليين للصفقة، قرر نتنياهو سنة ٢٠٠٤ توقيع العقد النهائى بـ«سعر لقطة» ١١٥ مليون دولار فقط، ومنح سامى عوفر خصما يصل إلى ٢٨ مليون دولار!

ميكى روزنتال حاول تفسير هذه المفارقة، فالتقى «رام كسبى» محامى عائلة عوفر الذى تفاوض لإتمام الصفقة. يقول «كسبى» فى مشهد بديع من مشاهد «الوثائقى»: «أنا أحب الشكشوكة. وأجيد طبخها. أثناء المفاوضات لشراء (زيم)، قدمنا سعرا، والدولة أصرت على سعر أعلى. فقدمنا سعرا جديدا، والدولة قدمت سعرا مختلفا، وهكذا استمرت المفاوضات عامين. وفى آخر جلسة مع المسؤولين، أقنعتهم بـ(طريقة الشكشوكة). أخذت كل الأرقام، وقلبتها جيدا كما أقلب الشكشوكة.

واقترحت متوسط أسعار. فأصبح لدينا رقم ١١٥ مليون دولار. وانتهت الصفقة على هذا النحو». ما لم يذكره «كسبى»، ونجح «ميكى روزنتال» فى إثباته أن أرباح شركة «زيم» فى ٢٠٠٥ فقط، غطت قيمة العقد بالكامل. مما يعنى أن «الدولة باعت فرخة تبيض ذهبا.. بتراب الفلوس»، كما يقول عضو الكنيست أوفير بينس فى الفيلم.

وبعد أن اطلعت على تفاصيل الفساد على الطريقة الإسرائيلية، من المهم أن نعود بك فى «فلاش باك» سريع لقصة إنتاج الفيلم الذى صار حديث الساعة فى تل أبيب بعد عرضه الثلاثاء الماضى فى القناة الأولى الإسرائيلية. لقد خطرت فكرة الفيلم لأول مرة على ذهن «ميكى روزنتال» فى بداية العام الماضى. عندما لفت نظره أن ٢٠ عائلة كبرى فى إسرائيل تسيطر على ٤٠% من الثروة.

وذلك ليس نتيجة شطارتهم فى البيزنس، ولكن نتيجة مهارتهم فى شراء ذمم المسؤولين. ولفت نظر «ميكى» أن الملياردير الإسرائيلى «سامى عوفر» الذى يتكرر اسمه فى مجلة فوربس، سنويا، تضاعفت ثروته عشرات المرات منذ طبقت إسرائيل سياسة الخصخصة عام ١٩٩٦.

وبدأ «ميكى» يجمع الشهادات والمستندات لفيلمه. وقبل أن يخطو خطوات حقيقية فوجئ بدعوة قضائية ضده وضد زوجته تتهمهما بالسب والقذف والاعتداء على الحياة الخاصة لعائلة عوفر. وقبل أن ينتهى روزنتال من قراءة أوراق الدعوى تلقى تهديدات بقتله، واغتيال أسرته.

وتسابقت شركات الإنتاج فى الاعتذار عن تمويل الفيلم. فاضطر «ميكى» للاقتراض من البنوك، لاستكمال فيلمه. وعندما انتهى من التصوير، وتخيل أنه لم يتبق سوى الاتفاق مع دور العرض. استغلت عائلة عوفر ملكيتها لأهم فضائيتين فى إسرائيل لمنع العرض. وضغطت على دور السينما التى صارت تفر من الفيلم فرار السليم من الأجرب.

وأثار قرار منع العرض جدلا كبيرا. وتشجعت بعض المراكز الثقافية المستقلة لعرض الفيلم بعيدا عن سيطرة الدولة، وسطوة رجال الأعمال. وطبع «ميكى» فيلمه على إسطوانات مدمجة.

وترشح الفيلم لجائزة «أحسن وثائقى» لعام ٢٠٠٨. ونتيجة ضغوط كبيرة مارسها كتاب الرأى فى الصحف اضطرت القناة الأولى المملوكة للدولة لعرض الفيلم، واشترطت عرض فيلم وثائقى آخر تكلف ٥٠٠ ألف شيكل، وأعدته شركات عائلة عوفر لاستعراض إنجازاتها، وخدماتها للاقتصاد الإسرائيلى، فى خرق فاضح لقواعد حرية التعبير، وتشويش على الحقائق الموثقة التى يعرضها فيلم «طريقة الشكشوكة»


Comments