حكايات «بهيجة حسين»

بقلم محمد البرغوثى

أعترف بداية بأننى بدأت قراءة هذه الرواية بدافع الواجب تجاه زميلة أحبها وأحترمها، وأعترف أيضاً بأننى بدأت القراءة لأتخلص من عبء الإحساس بالإهمال لأعمال زميلة أصدرت عدة روايات قبل هذه الرواية ولم أتمكن من قراءة أى منها.

ولكننى بعد صفحات قليلة من رواية «حكايات عادية لملء الوقت» الصادرة عن روايات الهلال فى ديسمبر الماضى، للزميلة بهيجة حسين، أدركت أننى أمام عمل إبداعى مدهش، لا أبالغ إطلاقاً إذا قلت إنه واحد من أجمل الأعمال فى تاريخ الرواية المصرية والعربية.

تبدأ الرواية بـ «مها» وهى تسحب حقيبة من أسفل السرير لتقضى الوقت «فى بعثرة وإعادة ترتيب الأشياء، «التى ظلت أمى تضعها بالحقائب خلال سنوات عمرى».. و«اليوم عندما فتحت الحقيبة الأولى كان هدفى ملء الوقت، ولم أكن أتصور أننى سأجد أقمشتى منخورة ومثقوبة، توشك أن تذوب بين أصابعى، أعدت أشيائى هذه المرة إلى الحقيبة..

ودسستها أسفل السرير بجوار بقية الحقائب المغلقة.. واستسلمت أو ابتلعت بشكل واضح حقيقة أن الوقت قد مضى، وأننى لن أرتدى ملابس عرسى.. ولن أفرش المفارش ولن أعلق الستائر على النوافذ والبلكونات، ولا اللوحات الجوبلان والإيتامين والكانڤاه على الحوائط».. «وأنا أدفع بحقيبة جهازى أسفل السرير.. ظهروا كالأطياف أمامى، هؤلاء الذين عشت أسمع حكاياتهم وأسير خلفهم كأننى أسير خلف نداهة».

وتنفتح بوابة الحكايات وكأنها شاشة عملاقة تتواتر عليها فى دفق شاعرى منتظم، موجع وحنون، وجوه وشخصيات وطقوس حياة ومصائر بشر وبيوت، وثقافة أمة، وتقلبات أزمنة تمتد من قلب خمسينيات القرن الماضى حتى هذه الأيام،

ولا تكاد بهيجة حسين تفلت شيئاً من يديها وهى تغزل بدقة شديدة ملامح هذا الزمن الممتد: من بيوت البرجوازية الزراعية أو الطبقة المستورة وما دونها من فئات فى قرية تقع بين مدينتى المنصورة والزقازيق، إلى شقق بقايا الأرستقراطية التى دمرتها ثورة يوليو، وبيوت الطبقة المتوسطة وما دونها من فئات شعبية فى ضواحى وأحياء القاهرة.

فى رواية بهيجة حسين ستقف مشدوها ـ أياً كانت الطبقة التى تنتمى إليها ـ أمام هذه العين اللاقطة لأدق تفاصيل الأماكن والحياة فى زرائب البهائم الملحقة ببيوت الفلاحين، ولكل جماليات الأثاث العتيق فى بيوت المستورين الذين ألقاهم التاريخ عن ظهره فى شوارع مكتظة بالواغش والضجيج والكذب والتدين الظاهرى الفاسق والقذارة، ولكنها أيضاً مكتظة بالاغتراب والوحشة والوحدة المميتة.

وفى رواية بهيجة حسين ستعثر حتماً على شخصيات من لحم ودم وأعصاب، تكاد من فرط تطابقها مع شخصيات تخصك، أن تتهم بهيجة بأنها استولت على ذاكرتك واستدعت منها هذه الحكايات المدهشة، التى نسجت منها جدارية لوطن تكدس فى حقائب مهملة نخرتها العتة، مثلما تكدست أوراقه وبحوثه ودراساته فى مخازن وطرقات «المصلحة»، التى التهمها حريق دمر كل جماليات العمارة.. ولكن الفئران والعرس والأبراص والسحالى، ربما تمكنت من النجاة، لأنها استشعرت الخطر قبل وقوعه.

فى هذه الزاوية الضيقة يستحيل أن ألخص للقارئ حكاية واحدة من حكايات هذه الرواية الممتعة، ولهذا أكتفى بالإشارة إلى أننى عشت طويلاً أحلم بولادة كاتبة مصرية تمتلك إمكانات وقدرات الروائية التشيلية إيزابيل الليندى، وأستطيع الآن بعد قراءة «حكايات عادية لملء الوقت» أن أقول إن بهيجة حسين قد حققت لنا هذا الحلم.. وأضافت للإبداع الروائى المصرى ذائقة جديدة كان فى أشد الاحتياج إليها.

elbrghoty@yahoo.com


Comments